الشعر والترجمة كلاهما كسرٌ. الترجمة كسر لنظام لغوي وتفكيك لمركباته ومكوناته وشبكاته.
دون هذا الكسر، لا يمكنني الانتقال بالنص من عالم إلى عالم، من لغة إلى لغة، من ثقافة إلى ثقافة. والشعر كسر للصمت. إذا غلب الصمت وساد، لا شعر.
لكن مم يتكون الشعر على صعيد المادة؟
يتكون الشعر من وحدات عتيقة ومألوفة (ألفاظ في تراكيب محكومة بنظام قواعد) إلى درجة يسهل معها أن ننسى أن الأمر لا يتعلق فقط بالكلمات، بل بالأصوات متعددة الإيقاعات وبالكلام المنطوق في محاولاته الأولى لكسر الصمت، إذ أن كل قصيدة مهمتها أن تكسر صمتاً ما لا بد من كسره.
الشعر تشكيل للعالم من جديد بعد تحطيم العالم كما كان على هيئته قبل القصيدة. القصيدة التي لا تكسر العالم وتعيد تشكيله، لا بد من إعادة النظر فيها.
والشعر صاحب أفضال.
وكبير هو فضل الشعر على اللغة وإن كانت من مواده.
حين يهطل ماء الشعر، تأخذ حصى اللغة البالية المتآكلة ألواناً جديدة لماعة شديدة الألق والتلألؤ، لكن قد تختفي هذه الألوان عندما نحاول غربلتها وإخراجها من قاع السيل وفرزها وتقديمها إلى الجمهور.
الشاعر محظوظ بقدر مطابقة ما رآه في اللحظة الشعرية الأولى لما قدمه للقارئ في لحظة الكتابة.
نعم، يعيد الشعر لحصى اللغة العتيقة الباهتة الألوان ألقها وتلألؤها ولمعانها وألوانها الأخاذة، لكننا قد نفشل في إخراجها من سيل الشعر الطاغي. إذا فشلنا، تفقد حصى اللغة ألقها وروعتها وإدهاشها، وتعود إلى طبيعتها الأولى قبل هطول ماء الشعر عليها.
كثيرة مواد الشعر إذن. لكن مادة هامة (لا علاقة لها بالمادة على الإطلاق) لا بد أن تتوفر في الشعر كي يكون شعراً. الصدق.
لا أستطيع كتابة قصيدة كي أخادعك وأحتال عليك. لن ينجح الأمر على الإطلاق. بل سيعود بمصائب على الشعر.
القصائد الكاذبة هي التي جعلت الجمهور يتحاشى القصائد. الكذب جنى على الشعر. القصائد الكاذبة والشعراء الكاذبون.
الكذب مصيبة الشعر الأولى.
ربما تكون قد قرأت الكثير من القصائد وقررت أنك لا تهتم للشعر، وربما كان في القصيدة أو في الاستخدامات اللغوية ما أطفأ جذوة حماستك للغة والشعر معاً. ذلك هو الكذب. لقد قرأت قصائد كاذبة.
الشعر لا يكون كاذباً ولا يكون مخادعاً. لا أستطيع أن أكتب قصيدة من دوافع خسيسة، ذلك أن هذه المحاولة تخالف طبيعة الشعر نفسه. ستكون القصيدة أداة لا تؤدي الغرض منها مثل أي مقص أو مثقب لم تشكله يدا الغاية المرجوة منه، لا شك أنك لن تجده نافعاً أو مفيداً على الإطلاق. كذلك لا أستطيع كتابة قصيدة أيضاً بناء على نوايا حسنة فحسب، لمجرد أنني أريد تصحيح أوضاع، ولا شك أن الطاقة سوف تتسرب من القصيدة، وسوف تنتهي القصيدة إلى لا غرض ولا معنى ولا هدف، ولن يلجأ أحد إلى قصيدتك.
لكن لم قد يلجأ أحد إلى قصيدة؟
نلجأ للشعر لأننا نعتقد أن لنا حاجة ماسة إليه، لنا علاقة وثيقة بعوالمه، مشدودون إلى ملكوته وكونه.
نلجأ للشعر كي نستقبل تجربة مختلفة عن تجاربنا، وندخل عالماً من الرؤية لا يمكن فهمه بغير الشعر.
ما تفهمه بغير الشعر لا يمكن أن يكون شعراً. ما تستطيع التعبير عنه بغير الشعر لا تكتبه شعراً. ليست قصيدة تلك التي يمكن أن يؤديها تماماً فن آخر. حين تحقق الاتصال والتواصل بوسيلة ما غير القصيدة، انس القصيدة.
كذلك، إذا ما كنت تعتقد أن لا حاجة بك إلى التواصل مع أحد ما أيضاً لا تكتب الشعر.
بلى، كل من يكتب قصيدة لديه تخيل وتصور في دخيلائه لشخص ما يدعى القارئ أو أشخاص يدعون القراء. لكن "هوية" هذا القارئ غير محددة المعالم، متغيرة ومتحولة، ولا يمكن ضبط ملامحها تماماً.
بهذا، ندخل مجالاً جديداً هو التلقي. وإلى حلقة جديدة مع الشعر.